شهامة المنجِد واستحقاق المستنجِد

الجزائر وسوريا كانتا حريصتين دوماً على المحافظة على نسق التعاون والأخوّة في مجريات علاقاتهما، وعلى إعلاء قيم التضامن والتآزر بينهما، حتّى في أحلك الظروف الأمنية وأكثرها حرجاً.
إن سبق الجزائر في تلبية استغاثة سوريا وشعبها بعد الزلزال الذي ألم بها، غير آبهة بالحظر المفروض عليها، هو موقف ينبئ بعمق العلاقة الموغلة في التجذّر تاريخياً وحضارياً بين البلدين، علاوةً على كونه باعثاً للاحترام والإشادة والاقتداء.
وبقدر ما يظهر هذا الموقف ثبات الجزائر على قيم التضامن والتآزر في مثل هذه النوائب، فإنه يأتي ليبيّن حرصها على إبداء توطّد علاقتها بسوريا وتمسّكها بدعمها في كل الظروف على نحو لا يتسرّب إليه الشكّ.
في الواقع، العلاقات الجزائرية السورية هي من العلاقات التي تعدّ مضرباً للمثل في الاستقرار بين الدول العربية. ولو بحثنا عن علاقة بين دولتين عربيتين لم تهتزّ على مرّ العقود، فسنجد العلاقة بين الجزائر وسوريا من بين أندر تلك العلاقات التي ميّزها الثبات وصبغتها الاستمرارية، رغم المتغيّرات السياسية والإستراتيجية المتقلبة.
وإذ نستذكر هذا، فحريّ بنا الإشارة إلى أنّ الجزائر وسوريا كانتا حريصتين دوماً على المحافظة على نسق التعاون والأخوة في مجريات علاقاتهما، وعلى إعلاء قيم التضامن والتآزر المتبادلين بينهما، حتّى في أحلك الظروف الأمنية التي مرّت بها البلدان وأكثرها حرجاً.
ليس من الغرابة في شيء أن تكون هبّة الجزائر بهذه السرعة إذاً، كما ليس من المغالاة القول إنّ هذا الموقف كان متوقّعاً منها ومتناغماً مع مواقفها المعهودة إزاء سوريا. إنّ المحاجّة هنا تقتضي التذكير بأنّ الجزائر تحفّظت عن قرار تجميد عضوية دمشق في الجامعة العربية في نوفمبر 2011، معتبرة أنه قرار خاطئ على المستوى الإستراتيجي ويتعارض مع الميثاق المؤسّس للجامعة.
وقد استقرّ موقف الجزائر على ثباته، وعلى رفض كلّ أساليب التغيير بالقوة واستجلاب الأجانب لغاية العام المنصرم، الذي شهد جهداً حثيثاً منها من أجل عودة سوريا لشغل مقعدها في الجامعة العربية في قمة الفاتح من نوفمبر 2022 بالجزائر.
ربما يدبّ في نفس القارئ حين يطالع هذه المعلومات شعور غامض بشأن هذه الخصوصية في العلاقة الجزائرية السورية. وهنا، من الملحّ أن نلمّح، ولو عرضاً، إلى الدور المحوري للعامل التاريخي في التأسيس لهذه العلاقة.
إنّ منشأ تلك الخصوصية يعود في الأصل إلى الرباط العاطفي الذي أوجده الأمير عبد القادر؛ مؤسّس الدولة الجزائرية الحديثة، بين شعبي الدولتين عند إقامته في منفاه في دمشق منذ عام 1856 إلى وفاته عام 1883، وهو رابطٌ يكاد يكون متفرّداً في علاقة الجزائر بالدول العربية. وقد استمرّ بعد حركية الهجرة نحو سوريا من الجزائريين الذين لحقوا بالأمير وأهله. وفي إثرها، تكوّنت جالية جزائرية سرعان ما اندمجت مع المجتمع السوري.
في القرن العشرين، أتت الثورة الجزائرية لتعزّز الروابط بين البلدين. ولن ينسى الجزائريون وقوف سوريا في صفّ الثورة الجزائرية والدعم الذي منحتهم إياه، ناهيك بالتأييد الشعبي السوري غير المنقطع لكفاح الجزائريين الذي أخذ شكل تظاهرات ضدّ فرنسا وتبرّعات، فضلاً عن التطوّع للمشاركة في العمل الثوريّ.
وما زال الجزائريون يذكرون إلى اليوم نور الدين الأتاسي وإبراهيم ماخوس وغيرهما كثر، من الذين تطوّعوا للعمل في صفوف جيش التحرير الجزائري إبان الثورة التحريرية.
أسّس هذا التقارب التاريخي لتقاطع في مواقف البلدين إزاء القضية الأم “الفلسطينية”. وقد عضدته مشاركتهما في حربي 1967 و1973 ضمن الجيوش العربية. ومع الوقت، أوجد تناسقاً في رؤى البلدين الإستراتيجية عبّرت عنه التقاطعات الكبيرة في مواقفهما إزاء حرمة سيادة الدول العربية ورفض التدخّل الأجنبي في شؤونها الداخلية، وهو مبدأ يشكل حجر الزاوية في الموقف الجزائري من الأزمة السورية منذ عام 2011.
يجب الارتكاز على تلك العوامل دائماً، لا لفهم خصوصية تضامن الجزائر مع سوريا وسرعته في هذه الظروف العصيبة فحسب، بل لفهم نسق العلاقة بين البلدين أيضاً. واليوم، لأنّ الجزائر خاضت تجربة الحصار في تسعينيات القرن المنصرم، ولأنها تعي جيداً معنى أن يتواطأ عليك “الأشقاء” قبل الأعداء، جاء تضامنها مع سوريا بهذه السرعة وبهذا الزخم.